فصل: تفريعات‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مقدمة ابن الصلاح المسمى بـ «معرفة أنواع علوم الحديث» **


*1*  النوع الرابع والعشرون‏:‏ معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه

اعلم‏:‏ أن طرق نقل الحديث وتحمله على أنواع متعددة، ولنقدم على بيانها بيان الأمور‏:‏

أحدها‏:‏ يصح التحمل قبل وجود الأهلية، فتقبل رواية من تحمل قبل الإسلام وروى بعده‏.‏ وكذلك رواية من سمع قبل البلوغ وروى بعده‏.‏

ومنع من ذلك قوم فأخطأوا لأن الناس قبلوا رواية أحداث الصحابة كالحسن بن علي، وابن عباس، وابن الزبير، والنعمان بن بشير، وأشباههم، من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وما بعده‏.‏ ولم يزالوا قديماً وحديثاً يحضرون الصبيان مجالس التحديث والسماع، ويعتدون بروايتهم لذلك، والله أعلم‏.‏

الثاني‏:‏ قال ‏(‏أبو عبد الله الزبيري‏)‏‏:‏ يستحب كتب الحديث في العشرين، لأنها مجتمع العقل‏.‏ قال‏:‏ وأحب أن يشتغل دونها بحفظ القرآن والفرائض‏.‏

وورد عن ‏(‏سفيان الثوري‏)‏ قال‏:‏ كان الرجل إذا أراد أن يطلب الحديث تعبد قبل ذلك عشرين سنة‏.‏

وقيل لموسى بن إسحاق‏:‏ كيف لم تكتب عن أبي نعيم ‏؟‏ فقال‏:‏ كان أهل الكوفة لا يخرجون أولادهم في طلب الحديث صغاراً حتى يستكلموا عشرين سنة‏.‏ وقال ‏(‏موسى بن هارون‏)‏‏:‏ أهل البصرة يكتبون لعشر سنين‏.‏ وأهل الكوفة لعشرين، وأهل الشام لثلاثين، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وينبغي بعد أن صار الملحوظ إبقاء سلسلة الإسناد أن يبكر بإسماع الصغير في أول زمان يصح فيه بسماعه‏.‏ وأما الاشتغال بكتبه الحديث، وتحصيله، وضبطه، وتقييده، فمن حين يتأهل لذلك ويستعد له‏.‏ وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، وليس ينحصر في سن مخصوص، كما سبق ذكره آنفا عن قوم، والله أعلم‏.‏

الثالث‏:‏ اختلفوا في أول زمان يصح فيه سماع الصغير‏.‏

فروينا عن موسى بن هارون الحمال - أحد الحفاظ النقاد - أنه سئل‏:‏ متى يسمع الصبي الحديث ‏؟‏ فقال‏:‏ إذا فرق بين البقرة والدابة، وفي رواية بين البقرة والحمار‏.‏

وعن ‏(‏أحمد بن حنبل‏)‏ رضي الله عنه أنه سئل‏:‏ متى يجوز سماع الصبي للحديث ‏؟‏ فقال‏:‏ إذا عقل وضبط‏.‏ فذكر له عن رجل أنه قال‏:‏ لا يجوز سماعه حتى يكون له خمس عشرة سنة‏.‏ فأنكر قوله وقال‏:‏ بئس القول‏.‏

وأخبرني الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله الأسدي، عن أبي محمد عبد الله بن محمد الأشيري، عن القاضي الحافظ عياض بن موسى السبتي اليحصبي قال‏:‏ قد حدد أهل الصنعة في ذلك أن أقله سن محمود بن الربيع‏.‏ وذكر رواية ‏(‏75‏)‏ البخاري في صحيحه بعد أن ترجم ‏(‏متى يصح سماع الصغير‏)‏ بإسناده عن محمود بن الربيع قال‏:‏ عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين، من دلو‏.‏ وفي رواية أخرى‏:‏ أنه كان ابن أربع سنين‏.‏

قلت‏:‏ التحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث المتأخرين، فيكتبون لابن خمس فصاعداً ‏(‏سمع‏)‏ ولمن لم يبلغ خمساً ‏(‏حضر أو‏:‏ أحضر‏)‏‏.‏ والذي ينبغي في ذلك‏:‏ أن تعتبر في كل صغير حاله على الخصوص، فإن وجدناه مرتفعاً عن حال من لا يعقل فهماً للخطاب ورداً للجواب ونحو ذلك صححنا سماعه، وإن كان دون خمس‏.‏ وإن لم يكن كذلك لم نصحح سماعه، وإن كان ابن خمس، بل ابن خمسين‏.‏

وقد بلغنا عن ‏(‏إبراهيم بن سعيد الجوهري‏)‏ قال‏:‏ رأيت صبياً ابن أربع سنين، قد حمل إلى المأمون، قد قرأ القرآن، ونظر في الرأي، غير أنه إذا جاع يبكي‏.‏

وعن ‏(‏القاضي أبي محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني‏)‏ قال‏:‏ حفظت القرآن ولي خمس سنين‏.‏ وحملت إلى أبي بكر بن المقرئ لأسمع منه ولي أربع سنين‏.‏ فقال بعض الحاضرين‏:‏ لا تُسَمِّعوا له فيما قرئ، فإنه صغير‏.‏ فقال لي ابن المقرئ‏:‏ اقرأ سورة الكافرين، فقرأتها، فقال‏:‏ اقرأ سورة التكوير، فقرأتها، فقال لي غيره‏:‏ اقرأ سورة المرسلات، فقرأتها، ولم أغلط فيها‏.‏ فقال ابن المقرئ‏:‏ سمّعوا له والعهدة عليَّ‏.‏

وأما حديث محمود بن الربيع‏:‏ فيدل على صحة ذلك من ابن خمس مثل محمود، ولا يدل على انتفاء الصحة فيمن لم يكن ابن خمس ولا على الصحة فيمن كان ابن خمس ولم يميز تمييز محمود رضي الله عنه، والله أعلم‏.‏

*2* بيان  أقسام طرق نقل الحديث وتحمله ومجامعها ثمانية أقسام‏:‏ ‏(‏76‏)‏

*3* القسم الأول‏:‏ السماع من لفظ الشيخ‏:‏

وهو ينقسم إلى إملاء، وتحديث من غير إملاء، وسواء كان من حفظه أو من كتابه‏.‏

وهذا القسم أرفع الأقسام عند الجماهير‏.‏ وفيما نرويه عن ‏(‏القاضي عياض بن موسى السبتي‏)‏ - أحد المتأخرين المطلعين - قوله‏:‏ لا خلاف أنه يجوز في هذا أن يقول السامع منه ‏(‏حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعت فلاناً يقول، وقال لنا فلان، وذكر لنا فلان‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ في هذا نظر، وينبغي فيما شاع استعماله من هذه الألفاظ مخصوصاً بما سُمع من غير لفظ الشيخ -على ما نبينه إن شاء الله تعالى -أن لا يطلق فيما سمع من لفظ الشيخ، لما فيه من الإيهام والإلباس والله أعلم‏.‏

وذكر ‏(‏الحافظ أبو بكر الخطيب‏)‏‏:‏ أن أرفع العبارات في ذلك ‏(‏سمعت‏)‏ ثم ‏(‏حدثنا وحدثني‏)‏ فإنه لا يكاد أحد يقول ‏(‏سمعت‏)‏ في أحاديث الإجازة والمكاتبة، ولا في تدليس ما لم يسمعه‏.‏ وكان بعض أهل العلم يقول فيما أجيز له ‏(‏حدثنا‏)‏‏.‏ وروي عن الحسن أنه كان يقول ‏(‏حدثنا أبو هريرة‏)‏ ويتأول أنه حدث أهل المدينة، وكان الحسن إذ ذاك بها، إلا أنه لم يسمع منه شيئاً‏.‏

قلت‏:‏ ومنهم من أثبت له سماعاً من أبي هريرة، والله اعلم‏.‏

ثم يتلو ذلك قول ‏(‏أخبرنا‏)‏ وهو كثير في الاستعمال، حتى أن جماعة من أهل العلم كانوا لا يكادون يخبرون عما سمعوه من لفظ من حدثهم إلا بقولهم ‏(‏أخبرنا‏)‏‏.‏ منهم حماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، وهشيم بن بشير، وعبيد الله بن موسى، وعبد الرزاق بن همام، ويزيد بن هارون، وعمرو بن عون، ويحي بن يحيى التميمي، وإسحاق بن راهويه، وأبو مسعود أحمد بن الفرات، ومحمد بن أيوب الرازيان، وغيرهم‏.‏

‏(‏77‏)‏ وذكر ‏(‏الخطيب‏)‏ عن محمد بن رافع قال‏:‏ كان عبد الرزاق يقول ‏(‏أخبرنا‏)‏ حتى قدم أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، فقالا له‏:‏ ‏(‏قل‏)‏ حدثنا فكل ما سمعت مع هؤلاء قال‏:‏ حدثنا، وما كان قبل ذلك قال‏:‏ أخبرنا‏.‏

وعن ‏(‏محمد بن أبي الفوارس الحافظ‏)‏ قال‏:‏ هشيم، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، لا يقولون إلا ‏(‏أخبرنا‏)‏ فإذا رأيت ‏(‏حدثنا‏)‏ فهو من خطأ الكاتب، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وكان هذا كله قبل أن يشيع تخصيص ‏(‏أخبرنا‏)‏ بما قرئ على الشيخ، ثم يتلو قول ‏(‏أخبرنا‏)‏ قول ‏(‏أنبأنا‏)‏ و‏(‏نبّأنا‏)‏ وهو قليل في الاستعمال‏.‏

قلت‏:‏ ‏(‏حدثنا، وأخبرنا‏)‏ أرفع من ‏(‏سمعت‏)‏ من جهة أخرى، وهي أنه ليس في ‏(‏سمعت‏)‏ دلالة على أن الشيخ رواه الحديث وخاطبه به، وفي ‏(‏حدثنا وأخبرنا‏)‏ دلالة على أنه خاطبه به ورواه له، أو هو ممن فُعل به ذلك‏.‏

سأل ‏(‏الخطيب أبو بكر الحافظ‏)‏ شيخه ‏(‏أبا بكر البرقاني الفقيه الحافظ‏)‏ - رحمهما الله تعالى - عن السر في كونه يقول فيما رواه عن أبي القاسم عبد الله بن إبراهيم الجرجاني الآبندوني ‏(‏سمعت‏)‏ ولا يقول ‏(‏حدثنا‏)‏ ولا ‏(‏أخبرنا‏)‏ فذكر له‏:‏ أن أبا القاسم كان مع ثقته وصلاحه عسراً في الرواية، فكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره، فيسمع منه ما يحدث به الشخص الداخل إليه‏.‏ فلذلك يقول ‏(‏سمعت‏)‏ ولا يقول ‏(‏حدثنا ولا أخبرنا‏)‏ لأن قصده كان الرواية للداخل إليه وحده‏.‏

وأما قوله ‏(‏قال لنا فلان، أو ذكر لنا فلان‏)‏ فهو من قبيل قوله ‏(‏حدثنا فلان‏)‏ غير أنه لائق بما سمعه منه في المذاكرة، وهو به أشبه من ‏(‏حدثنا‏)‏‏.‏

وقد حكينا في فصل التعليق - عيب النوع الحادي عشر - عن كثير من المحدثين استعمال ذلك معبرين به عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات‏.‏

وأوضع العبارات في ذلك أن يقول‏:‏ ‏(‏قال فلان، أو‏:‏ ذكر فلان‏)‏ من غير ذكر قوله ‏(‏لي ولنا‏)‏ ونحو ذلك‏.‏ وقد قدمنا في فصل الإسناد المعنعن أن ذلك وما ‏(‏78‏)‏ أشبهه من الألفاظ محمول عندهم على السماع، إذا عرف لقاؤه له وسماعه منه على الجملة، لا سيما إذا عرف من حاله أنه لا يقول ‏(‏قال فلان‏)‏ إلا فيما سمعه منه‏.‏

وقد كان ‏(‏حجاج بن محمد الأعور‏)‏ يروي عن ابن جريج كتبه، ويقول فيها ‏(‏قال ابن جريج‏)‏ فحملها الناس عنه، واحتجوا برواياته، وكان قد عرف من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه‏.‏

وقد خصص ‏(‏الخطيب أبو بكر الحافظ‏)‏ القول بحمل ذلك على السماع بمن عرف من عادته مثل ذلك، والمحفوظ المعروف ما قدمنا ذكره‏.‏ والله أعلم‏.‏

*3* القسم الثاني من أقسام الأخذ والتحمل‏:‏ القراءة على الشيخ

وأكثر المحدثين يسمونها ‏(‏عرضاً‏)‏ من حيث إن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه كما يعرض القرآن على المقرئ‏.‏

وسواء كنت أنت القارئ، أو قرأ غيرك وأنت تسمع، أو قرأت من كتاب، أو من حفظك، أو كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه، أو لا يحفظه لكن يمسك أصله هو أو ثقة غيره‏.‏

ولا خلاف أنها رواية صحيحة، إلا ما حكي عن بعض من لا يعتد بخلافه، والله أعلم‏.‏

واختلفوا في أنها‏:‏ مثل السماع من لفظ الشيخ في المرتبة أو دونه أو فوقه ‏؟‏

فنقل عن ‏(‏أبي حنيفة‏)‏ و‏(‏ابن أبي ذئب‏)‏ وغيرهما‏:‏ ترجيح القراءة على الشيخ على السماع من لفظه‏.‏ وروي ذلك عن مالك أيضاً‏.‏

وروي عن مالك وغيره‏:‏ أنهما سواء‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن التسوية بينهما مذهب معظم علماء الحجاز والكوفة، و مذهب مالك وأصحابه وأشياخه من علماء المدينة، ومذهب البخاري وغيرهم‏.‏

والصحيح‏:‏ ترجيح السماع من لفظ الشيخ، والحكم بأن القراءة عليه مرتبة ثانية‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذا مذهب جمهور أهل المشرق، والله أعلم‏.‏

‏(‏79‏)‏ وأما العبارة عنها عند الرواية بها فهي على مراتب‏:‏ أجودها وأسلمها أن يقول ‏(‏قرأت على فلان‏.‏ أو قرئ على فلان، وأنا أسمع فأقر به‏)‏ فهذا شائع من غير إشكال‏.‏

ويتلو ذلك ما يجوز من العبارات في السماع من لفظ الشيخ مطلقة، إذا أتى بها هنا مقيدة، بأن يقول ‏(‏حدثنا فلان قراءة عليه، أو‏:‏ أخبرنا قراءة عليه‏)‏ ونحو ذلك‏.‏ وكذلك ‏(‏أنشدنا قراءة عليه‏)‏ في الشعر‏.‏

وأما إطلاق ‏(‏حدثنا، وأخبرنا‏)‏ في القراءة على الشيخ، فقد اختلفوا فيه على مذاهب‏:‏

فمن أهل الحديث من منع منهما جميعاً، وقيل‏:‏ إنه قول ابن المبارك، ويحيى بن يحيى التميمي، وأحمد بن حنبل، والنسائي وغيرهم‏.‏

ومنهم من ذهب إلى تجويز ذلك، وأنه كالسماع من لفظ الشيخ في جواز إطلاق ‏(‏حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا‏)‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذا مذهب معظم الحجازيين، والكوفيين، وقول الزهري، ومالك، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، في آخرين من الأئمة المتقدمين، وهو مذهب البخاري صاحب الصحيح في جماعة من المحدثين‏.‏

ومن هؤلاء من أجاز فيها أيضاً أن يقول ‏(‏سمعت فلاناً‏)‏‏.‏

والمذهب الثالث‏:‏ الفرق بينهما في ذلك، والمنع من إطلاق ‏(‏حدثنا‏)‏، وتجويز إطلاق ‏(‏أخبرنا‏)‏‏.‏ وهو مذهب الشافعي وأصحابه، وهو منقول عن مسلم صاحب الصحيح، وجمهور أهل المشرق‏.‏

وذكر صاحب كتاب ‏(‏الإنصاف‏)‏ ‏(‏محمد بن الحسن التميمي الجوهري المصري‏)‏‏:‏ أن هذا مذهب الأكثر من أصحاب الحديث الذين لا يحصيهم أحد، وأنهم جعلوا ‏(‏أخبرنا‏)‏ علماً يقوم مقام قول قائله‏:‏ أنا قرأته عليه، لا أنه لفظ به لي‏.‏ قال‏:‏ وممن كان يقول به من أهل زماننا ‏(‏أبو عبد الرحمن النسائي‏)‏، في جماعة مثله من محدثينا‏.‏

‏(‏80‏)‏ قلت‏:‏ وقد قيل‏:‏ إن أول من أحدث الفرق بين هذين اللفظين ‏(‏ابن وهب بمصر‏)‏‏.‏

وهذا يدفعه أن ذلك مروي عن ‏(‏ابن جريج‏)‏ و‏(‏الأوزاعي‏)‏، حكاه عنهما ‏(‏الخطيب أبو بكر‏)‏، إلا أن يعني أنه أول من فعل ذلك بمصر، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ الفرق بينهما صار هو الشائع الغالب على أهل الحديث، والاحتجاج لذلك من حيث اللغة عناء وتكلف‏.‏ وخير ما يقال فيه‏:‏ إنه اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين، ثم خصص النوع الأول بقول ‏(‏حدثنا‏)‏ لقوة إشعاره بالنطق والمشافهة، والله أعلم‏.‏

ومن أحسن ما يحكى عمن يذهب هذا المذهب ما حكاه ‏(‏الحافظ أبو بكر البرقاني‏)‏، عن ‏(‏أبي حاتم محمد بن يعقوب الهروي‏)‏، أحد رؤساء أهل الحديث بخراسان‏:‏ أنه قرأ على بعض الشيوخ عن الفربري ‏(‏صحيح البخاري‏)‏، وكان يقول له في كل حديث ‏(‏حدثكم الفربري‏)‏ فلما فرغ من الكتاب سمع الشيخ يذكر‏:‏ أنه إنما سمع الكتاب من الفربري قراءة عليه، فأعاد ‏(‏أبو حاتم‏)‏ قراءة الكتاب كله، وقال له في جميعه ‏(‏أخبركم الفربري‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

*4* تفريعات‏:‏

 الأول‏:‏ إذا كان أصل الشيخ عند القراءة عليه بيد غيره، وهو موثوق به، مراع لما يقرأ، أهل لذلك‏:‏ فإن كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه فهو كما لو كان أصله بيد نفسه، بل أولى، لتعاضد ذهني شخصين عليه‏.‏ وإن كان الشيخ لا يحفظ ما يقرأ عليه، فهذا مما اختلفوا فيه‏:‏ فرأى بعض أئمة الأصول أن هذا سماع غير صحيح‏.‏ والمختار‏:‏ أن ذلك صحيح، وبه عمل معظم الشيوخ وأهل الحديث‏.‏

وإذا كان الأصل بيد القارئ، وهو موثوق به ديناً ومعرفة، فكذلك الحكم فيه، وأولى بالتصحيح‏.‏

وأما إذا كان أصله بيد من لا يوثق بإمساكه له، ولا يؤمن إهماله لما يقرأ، فسواء كان بيد القارئ أو بيد غيره، في أنه سماع غير معتد به، إذا كان الشيخ غير حافظ للمقروء عليه، والله أعلم‏.‏

‏(‏81‏)‏  الثاني‏:‏ إذا قرأ القارئ على الشيخ قائلاً ‏(‏أخبرك فلان، أو‏:‏ قلت أخبرنا فلان‏)‏ أو نحو ذلك، والشيخ ساكت، مصغ إليه، فاهم لذلك، غير منكر له، فهذا كاف في ذلك‏.‏

واشترط بعض الظاهرية وغيرهم إقرار الشيخ نطقاً، وبه قطع الشيخ ‏(‏أبو إسحاق الشيرازي‏)‏، و‏(‏أبو الفتح سليم الرازي‏)‏، و‏(‏أبو نصر بن الصباغ‏)‏ من الفقهاء الشافعيين‏.‏ قال أبو نصر‏:‏ ليس له أن يقول ‏(‏حدثني‏)‏ أو ‏(‏أخبرني‏)‏ وله أن يعمل بما قرئ عليه، وإذا أراد روايته عنه قال ‏(‏قرأت عليه، أو‏:‏ قرئ عليه وهو يسمع‏)‏‏.‏

وفي حكاية بعض المصنفين للخلاف في ذلك‏:‏ أن بعض الظاهرية شرط إقرار الشيخ عند تمام السماع‏:‏ بأن يقول القارئ للشيخ ‏(‏وهو كما قرأته عليك ‏؟‏‏)‏، فيقول‏:‏ نعم‏.‏

والصحيح أن ذلك غير لازم، وأن سكوت الشيخ على الوجه المذكور نازل منزلة تصريحه بتصديق القارئ، اكتفاء بالقرائن الظاهرة‏.‏ وهذا مذهب الجماهير من المحدثين والفقهاء وغيرهم، والله أعلم‏.‏

 الثالث‏:‏ فيما نرويه عن ‏(‏الحاكم أبي عبد الله الحافظ‏)‏ رحمه الله قال‏:‏ الذي أختاره في الرواية، وعهدت عليه أكثر مشايخه، وأئمة عصري‏:‏ أن يقول في الذي يأخذه من المحدث لفظاً وليس معه أحد ‏(‏حدثني فلان‏)‏ وما يأخذه من المحدث لفظاً ومعه غيره ‏(‏حدثنا فلان‏)‏ وما قرأ على المحدث بنفسه ‏(‏أخبرني فلان‏)‏ وما قرئ على المحدث وهو حاضر ‏(‏أخبرنا فلان‏)‏‏.‏

وقد روينا نحو ما ذكره عن ‏(‏عبد الله بن وهب‏)‏، صاحب ‏(‏مالك‏)‏ رضي الله عنهما‏.‏ وهو حسن رائق‏.‏

فإن شك في شيء عنده أنه من قبيل ‏(‏حدثنا، أو‏:‏ أخبرنا‏)‏ أو من قبيل ‏(‏حدثني، أو‏:‏ أخبرني‏)‏ لتردده في أنه كان عند التحمل والسماع وحده أو مع غيره، فيحتمل أن نقول‏:‏ ليقل ‏(‏حدثني أو‏:‏ أخبرني‏)‏ لأن عدم غيره هو الأصل‏.‏ ولكن ذكر ‏(‏علي بن عبد الله المديني الإمام‏)‏ عن شيخه ‏(‏يحيى بن سعيد القطان الإمام‏)‏، فيما إذا شك أن الشيخ قال‏:‏ ‏(‏حدثني فلان‏)‏ أو قال ‏(‏حدثنا فلان‏)‏ أنه يقول ‏(‏حدثنا‏)‏‏.‏

‏(‏82‏)‏ وهذا يقتضي فيما إذا شك في سماع نفسه في مثل ذلك أن يقول ‏(‏حدثنا‏)‏‏.‏ وهو عندي يتوجه بأن ‏(‏حدثني‏)‏ أكمل مرتبة و‏(‏حدثنا‏)‏ أنقص مرتبة، فليقتصر إذا شك على الناقص، لأن عدم الزائد هو الأصل، وهذا لطيف‏.‏ ثم وجدت الحافظ أحمد البيهقي رحمه الله قد اختار بعد حكايته قول القطان ما قدمته‏.‏

ثم إن هذا التفصيل من أصله مستحب وليس بواجب، حكاه ‏(‏الخطيب الحافظ‏)‏ عن أهل العلم كافة‏.‏ فجائز إذا سمع وحده أن يقول ‏(‏حدثنا‏)‏ أو نحوه لجواز ذلك للواحد في كلام العرب‏.‏ وجائز إذا سمع في جماعة أن يقول ‏(‏حدثني‏)‏ لأن المحدث حدثه وحدث غيره، والله أعلم‏.‏

 الرابع‏:‏ روينا عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال‏:‏ اتبع لفظ الشيخ في قوله ‏(‏حدثنا، وحدثني، وسمعت، وأخبرنا‏)‏ ولا تعدوه‏.‏

قلت‏:‏ ليس لك فيما تجده في الكتب المؤلفة من روايات من تقدمك أن تبدل في نفس الكتاب ما قيل فيه‏:‏ أخبرنا ب حدثنا، ونحو ذلك، وإن كان في إقامة أحدهما مقام الآخر خلاف وتفصيل سبق، لاحتمال أن يكون من قال ذلك ممن لا يرى التسوية بينهما‏.‏ ولو وجدت من ذلك إسناداً عرفت من مذهب رجاله التسوية بينهما فإقامتك أحدهما مقام الآخر من باب تجويز الرواية بالمعنى‏.‏ وذلك وإن كان فيه خلاف معروف فالذي نراه الامتناع من إجراء مثله في إبدال ما وضع في الكتب المصنفة والمجامع المجموعة، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏ وما ذكره ‏(‏الخطيب أبو بكر‏)‏ في ‏(‏كفايته‏)‏ من إجراء ذلك الخلاف في هذا فمحمول عندنا على ما يسمعه الطالب من لفظ المحدث، غير موضوع في كتاب مؤلف، والله أعلم‏.‏

 الخامس‏:‏ اختلف أهل العلم في صحة سماع من ينسخ وقت القراءة، فورد عن ‏(‏الإمام إبراهيم الحربي‏)‏، و‏(‏أبي أحمد بن عدي الحافظ‏)‏، والأستاذ ‏(‏أبي إسحاق الإسفرائيني الفقيه الأصولي‏)‏ وغيرهم نفي ذلك‏.‏

وروينا عن ‏(‏أبي بكر أحمد بن إسحاق الصبغي‏)‏، أحد أئمة الشافعيين بخراسان‏:‏ أنه سئل عمن يكتب في السماع ‏؟‏ فقال‏:‏ يقول ‏(‏حضرت‏)‏ ولا يقل ‏(‏حدثنا، ولا أخبرنا‏)‏‏.‏

‏(‏83‏)‏ وورد عن ‏(‏موسى بن هارون الحمال‏)‏ تجويز ذلك‏.‏ وعن ‏(‏أبي حاتم الرازي‏)‏ قال‏:‏ كتبت عند عارم وهو يقرأ، وكتبت عند عمرو بن مرزوق وهو يقرأ‏.‏ وعن عبد الله بن المبارك‏:‏ أنه قرئ عليه وهو ينسخ شيئاً آخر غير ما يقرأ‏.‏

ولا فرق بين النسخ من السامع والنسخ من المسمع‏.‏

قلت‏:‏ وخير من هذا الإطلاق التفصيل‏.‏ فنقول‏:‏

لا يصح السماع إذا كان النسخ بحيث يمتنع معه فهم الناسخ لما يقرأ، حتى يكون الواصل إلى سمعه كأنه صوت غُفل‏.‏

ويصح إذا كان بحيث لا يمتنع معه الفهم‏.‏ كمثل ما رويناه عن ‏(‏الحافظ العالم أبي الحسن الدارقطني‏)‏‏:‏ أنه حضر في حداثته مجلس إسماعيل الصفار، فجلس بنسخ جزءاً كان معه وإسماعيل يملي، فقال له بعض الحاضرين‏:‏ لا يصح سماعك وأنت تنسخ‏.‏ فقال‏:‏ فهمي للإملاء خلاف فهمك‏.‏ ثم قال‏:‏ تحفظ كم أملى الشيخ من حديث إلى الآن ‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ فقال ‏(‏الدارقطني‏)‏‏:‏ أملى ثمانية عشر حديثاً فعدت الأحاديث فوجدت كما قال‏.‏ ثم قال ‏(‏أبو الحسن‏)‏‏:‏ الحديث الأول منها عن فلان عن فلان ومتنه كذا‏.‏ والحديث الثاني عن فلان عن فلان ومتنه كذا‏.‏ ولم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها في الإملاء حتى أتى على آخرها، فتعجب الناس منه، والله أعلم‏.‏

 السادس‏:‏ ما ذكرناه في النسخ من التفصيل يجري مثله فيما إذا كان الشيخ أو السامع يتحدث، أو كان القارئ خفيف القراءة يفرط في الإسراع‏.‏ أو كان يهينم بحيث يخفي بعض الكلم، أو كان السامع بعيداً عن القارئ، وما أشبه ذلك‏.‏

ثم الظاهر‏:‏ أن يعفى في كل ذلك عن القدر اليسير، نحو الكلمة والكلمتين‏.‏

‏(‏84‏)‏ ويستحب للشيخ أن يجيز لجميع السامعين رواية جميع الحزء أو الكتاب الذي سمعوه، وإن جرى على كله اسم السماع‏.‏ وإذا بذل لأحد منهم خطه بذلك كتب له‏:‏ سمع مني هذا الكتاب وأجزت له روايته عني‏.‏ أو نحو هذا، كما كان بعض الشيوخ يفعل‏.‏ وفيما نرويه عن الفقيه ‏(‏أبي محمد بن أبي عبد الله بن عتاب الفقيه الأندلسي‏)‏، عن أبيه رحمهما الله أنه قال‏:‏ لا غنى في السماع عن الإجازة، لأنه قد يغلط القارئ ويغفل الشيخ، أو يغلط الشيخ إن كان القارئ ويغفل السامع، فينجبر له ما فاته بالإجازة‏.‏

هذا الذي ذكرناه تحقيق حسن‏.‏

وقد روينا عن ‏(‏صالح بن أحمد بن حنبل‏)‏ رضي الله عنهما قال‏:‏ قلت لأبي‏:‏ الشيخ يدغم الحرف يعرف أنه كذا وكذا ولا يفهم عنه، ترى أن يروي ذلك عنه ‏؟‏ قال‏:‏ أرجو أن لا يضيق هذا‏.‏

وبلغنا عن خلف بن سالم المخرمي قال سمعت ابن عيينة يقول ‏(‏نا عمرو بن دينار‏)‏ يريد ‏(‏حدثنا عمرو بن دينار‏)‏ لكن اقتصر من ‏(‏حدثنا‏)‏ على ‏(‏النون والألف‏)‏ فإذا قيل له قل ‏(‏حدثنا عمرو‏)‏ قال‏:‏ لا أقول، لأني لم أسمع من قوله ‏(‏حدثنا‏)‏ ثلاثة أحرف وهي ‏(‏حدث‏)‏ لكثرة الزحام‏.‏

قلت‏:‏ قد كان كثير من أكابر المحدثين يعظم الجمع في مجالسهم جداً، حتى ربما بلغ ألوفاً مؤلفة، ويبلغهم عنهم المستملون، فيكتبون عنهم بواسطة تبليغ المستملين، فأجاز غير واحد لهم رواية ذلك عن المملي‏.‏

روينا عن ‏(‏الأعمش‏)‏ رضي الله عنه قال‏:‏ كنا نجلس إلى إبراهيم، فتتسع الحلقة، فربما يحدث بالحديث فلا يسمعه من تنحى عنه، فيسأل بعضهم بعضاً عما قال، ثم يروونه وما سمعوه منه‏.‏

وعن حماد بن زيد‏:‏ أنه سأله رجل في مثل ذلك، فقال‏:‏ يا أبا إسماعيل كيف قلت ‏؟‏ فقال‏:‏ استفهم ممن يليك‏.‏

‏(‏85‏)‏ وعن بن عيينة‏:‏ أن ‏(‏أبا مسلم المستملي‏)‏ قال له‏:‏ إن الناس كثير لا يسمعون، قال ألا تسمع أنت ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فأسمعهم‏.‏

وأبى آخرون ذلك‏.‏

روينا عن ‏(‏خلف بن تميم‏)‏ قال‏:‏ سمعت من ‏(‏سفيان الثوري‏)‏ عشرة آلاف أو نحوها، فكنت أستفهم جليسي، فقلت لزائدة، فقال لي‏:‏ لا تحدث منها إلا بما تحفظ بقلبك وسمع أذنك، قال‏:‏ فألقيتها‏.‏

وعن ‏(‏أبي نعيم‏)‏‏:‏ أنه كان يرى فيما سقط عنه من الحرف الواحد والاسم مما سمعه من ‏(‏سفيان‏)‏ و‏(‏الأعمش‏)‏، واستفهمه من أصحابه‏:‏ أن يرويه عن أصحابه، لا يرى غير ذلك واسعاً له‏.‏

قلت‏:‏ الأول تساهل بعيد‏.‏ وقد روينا عن ‏(‏أبي عبد الله بن منده الحافظ الأصبهاني‏)‏ أنه قال لواحد من أصحابه‏:‏ يا فلان يكفيك من السماع شمه‏.‏ وهذا إما متأول أو متروك على قائله‏.‏ ثم وجدت عن ‏(‏عبد الغني بن سعيد الحافظ‏)‏ عن ‏(‏حمزة بن محمد الحافظ‏)‏ بإسناده، عن ‏(‏عبد الرحمن بن مهدي‏)‏ أنه قال‏:‏ يكفيك من الحديث شمه‏.‏ قال عبد الغني‏:‏ قال لنا حمزة‏:‏ يعني إذا سئل عن أول شيء عرفه، وليس يعني التسهيل في السماع، والله أعلم‏.‏

 السابع‏:‏ يصح السماع ممن هو وراء حجاب إذا سمع صوته فيما إذا حدث بلفظه، وإذا عرف حضوره بمسمع منه فيما إذا قرئ عليه‏.‏ وينبغي أن يجوز الاعتماد في معرفة صوته وحضوره على خبر من يوثق به‏.‏ وقد كانوا يسمعون من عائشة رضي الله عنها وغيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب، ويروونه عنهن اعتماداً على الصوت‏.‏ واحتج عبد الغني بن سعيد الحافظ في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم‏)‏‏)‏‏.‏ وروى ‏(‏86‏)‏ بإسناده عن شعبة أنه قال‏:‏ إذا حدثك المحدث فلم تر وجهه فلا ترو عنه، فلعله شيطان قد تصور في صورته يقول حدثنا وأخبرنا، والله أعلم‏.‏

 الثامن‏:‏ من سمع من شيخ حديثاً ثم قال له‏:‏ لا تروه عني، أو‏:‏ لا آذن لك في روايته عني، أو قال‏:‏ لست أخبرك به، أو‏:‏ رجعت عن إخباري إياك به، فلا تروه عني، غير مسند ذلك إلى أنه أخطأ فيه أو شك فيه ونحو ذلك، بل منعه من روايته عنه مع جزمه بأنه حديثه وروايته، فذلك غير مبطل لسماعه، ولا مانع له من روايته عنه‏.‏

وسأل ‏(‏الحافظ أبو سعيد بن عليك النيسابوري‏)‏ الأستاذ ‏(‏أبا إسحاق الإسفرائيني‏)‏ رحمها الله، عن محدث خص بالسماع قوماً فجاء غيرهم وسمع منه من غير علم المحدث به، هل يجوز له رواية ذلك عنه ‏؟‏ فأجاب‏:‏ بأنه يجوز‏.‏ ولو قال المحدث‏:‏ إني أخبركم ولا أخبر فلاناً، لم يضره، والله أعلم‏.‏